فصل: كتاب القَسْمِ والنشوز:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.كتاب القَسْمِ والنشوز:

قال الشافعي: "قال الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]... إلى آخره".
8600- للرجال حقوق على النساء، كالتمكين، والاستقرارِ في البيت، ويدخل تحت التمكين التنظُّف والاستعداد بالاستحداد وغيره.
ولهن على الرجال المهرُ والنفقة والسكنى والكسوةُ، على ما ستأتي حقوقُها مفصلةً-إن شاء الله تعالى-. قال الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ} [البقرة: 228] فاقتضى الظاهر تشبيه ما لهن بما عليهن، وهذا التشبيه في أصل الحق، والحقان متشابهان في التأكد ووجوب الوفاء به، وليسا متشابهين في الكيفية والصفة.
ثم فَسَّر الشافعي: المعروف المذكور في قوله تعالى: {بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]، فقال: "وجماع المعروف بين الزوجين كفُّ المكروه، وإعفاءُ صاحب الحق من المؤنة في طلبه، لا بإظهار الكراهية في تأديته، فأيُّهما مطل بتأخيره، فمَطْلُ الغني ظلم".
ومعناه: جملة المعروف بين الزوجين أن لا يؤذي أحدُهما صاحبه، وينكفُّ عن إلحاق مكروه به، فالمرأة لا تؤذي الزوجَ بلسانها أو شراستها، والرجل لا يؤذِيها بوجوه الأذى، ويعفي كلُّ واحد منهما صاحبَه عن مؤنةٍ في طلب حقه، فيوفر الزوج الصداقَ عليها، ولا يحوجها إلى رفعه إلى القاضي، فقد تحتاج إلى بذلِ مؤونة ومعاناةِ مشقةٍ.
وكذلك القول في المرأة فيما عليها له، ولا يُظهر واحد منهما كراهيةً في تأدية حق صاحبه، فالرجل لا يعبس عند إيفاء حقوقها بل يؤديها كاملة على طلاقة، والمرأة لا تعبس إذا قَرِبَها الزوج.
ثم قال: "فأيهما مطَلَ فمطل الغني ظلم"، والمطل: مدافعة الحق مع القدرة على التأدية، ولفظ " الغني " لا يختص باليسار والثروة، بل كل متمكن من تأدية حق مستقلٍّ به، فهو في حكم الغني. وللغني في أسماء الله تعالى معنيان أحدهما: المقتدر، والثاني: البريء عن الحاجة.
ومن حقوق المرأة على الرجل القَسْم، وهذا الكتاب بأبوابه معقودٌ له لا غير، فإن تطرق إليه حكم آخر، لم يكن مقصوداً بالكتاب.
8601- فنبتدىء، ونقول: الرجل لا يخلو إما أن يكون ذا زوجة واحدة، وإما أن يجمع بين زوجتين فصاعداً، فإن كان ذا زوجة واحدة، فلا يلزمه أن يبيت عندها، ولو لم يدخل عليها قط، فلا طَلِبةَ عليه إذا كان يوفيها حقوقها، والذي يقتضيه أدب الدين ألا يعطّلَها، فقد يُفضي تعطيلُها-إذا هي تاقت- إلى الفجور، وفي تعطيلُها إضرارٌ بها، ولست أُبعد إطلاَق لفظ الكراهية في تعطيلها، فإنَّا نسمح بإطلاق هذا اللفظ دون هذه الأمور التي أشرنا إليها.
وقد حُكي عن أبي حنيفة أنه قال: ينبغي ألا يخليَ أربعَ ليالٍ عن ليلةٍ يقيم فيها عندها؛ فإنَّ أقصى ما يفرض من النسوة تحته أربع، ثم ينالُها من القَسْم ليلةً من أربع ليال.
وهذا غير مرضي عند أصحابنا؛ فإنَّ اعتبار أقدار الليالي حيث لا قَسْمَ محال، ولو نظر ناظرٌ إلى الإضرار ومؤنة أربعة أشهر، كان بعيداً، فإن كان الضرار لا يدفعه إلاَّ الاستمتاع، فهذا غير مرعي في المبيت الذي نقرر القول فيه.
8602- وإن جمع بين نسوة أو بين امرأتين، ثم أراد الإضراب عنهن؛ فلا معترض عليه، وهُنَّ بجملتهن-إذا أَعرض عنهن- كالزوجة الواحدة، فإن بات عند واحدة منهن، لم يكن له تخصيصها، بل عليه أن يَقسم بينهن ويسوي في المبيت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان له امرأتان، فمال إلى إحداهما، حُشر يوم القيامة وأحدُ شقيه مائل».
والذي ذكرناه من الأمر بالتسوية إنما هو فيما يتعلق بالأفعال، وأما القلوب، فلا يملكها إلاَّ مقلبُ القلوب، قال الله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129]. قال المفسرون: لن تستطيعوا أن تعدلوا بالقلوب، فلا تتبِعُوا أهواءكم أفعالكم؛ فإن من أتبع هواه فِعلَه، فقد مال كل الميل، فكان ميل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عائشة من نسائه بَيِّناً، وكان يحاول التسويةَ بينهن فعلاً، ويقول: "اللهم هذا قَسْمى فيما أملك وأنت أعلم بما لا أملك". وكان ذلك مشهوراً في الصحابة رضي الله عنهم، حتى إن الناس كانوا يحسبون ليلةَ عائشةَ وينتظرون ليلتها، فمن أراد أن يهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية، كان يُهديها في ليلتها، فشق ذلك على صواحبها، فأتين فاطمة وشكون إليها وحَمَّلْنَها رسالةً، فبَلَّغنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا تحبين ما يحب أبوك، إنَّ جبريل لا يأتيني وأنا في فراشٍ سوى فراش عائشة». وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسعُ نسوة، وهو يقسم لثمان منهن؛ فإنَّ سودة طلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: راجعني لأُحشر في جملة نسائك، وقد وهبتُ ليلتي لعائشة فراجَعَها، وقيل: أمره الله تعالى بها، فقال: «راجع سودة فإنها صوَّامةٌ قوَّامة».
8603- وكان صلى الله عليه وسلم لا يُخلّ بالقسْم، ولا يألو جهداً في رعاية التسوية، حتى في مرض موته، قيل: كان يأمر حتى يطاف به على حُجَر نسائه وكان يستبطىء ليلة عائشة، ويقول: أين أنا اليوم؟ أين أنا غداً؟ ففطِنّ مراده، وكان يُمرَّض في بيتِ عائشة إلى أن توفاه الله عز وجل. وعن عائشة أنها قالت: "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سَحْري ونحري في الليلة التي لم أظلم فيها أحداً". أرادت أنه اتفقت الوفاة في نوبتها الأصلية التي لم تكن من قِبَل سودة.
وقد ظهر اختلافُ الأصحاب في أنَّ القَسْم هل كان واجباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أو كان يفعله تكرماً، كما قدمناه في أول كتاب النكاح، فمن أحلّهن في حقه محل الإماء لم يوجب القَسْم، كما تقدم شرحه في ذكر خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فصل:
قال: "وعماد القَسْم الليلُ... إلى آخره".
8604- المعتمد في زمان القسم الليل، لأنه سكنٌ، قال الله تعالى: {يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} [القصص: 72]. وقال تعالى: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} [الأنعام: 96].
وقد سمى الله تعالى الأزواجَ سكناً، فقال عز وجل: {أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21]. وقولنا: "الأصلُ " لا يتبين أثره الآن، وإذا انتهينا إلى تفريع المسائل، أوضحنا ذلك، إن شاء الله عز وجل.
ثم إنما يكون التعويل على الليل في حق معظم الناس، وعامة الخليقة؛ فإنهم ينتشرون في مآربهم وأوطارهم نهاراً، فإذا جنَّ الليل، ارتادوا السكونَ في مساكنهم والدَّعَة.
فلو فرض شخص يشتغل بالليل ويسكن بالنهار-كالحراس ومن في معناهم، فعماد القسم في حقوقهم النهار؛ فإن المتبع فيه أن الأصل في القَسْم وقتُ السكون والدَّعةِ، فإن من ينتشر نهاراً لم يمنع منه، ولم يُلزم أن يدخل على صاحبة النوبة النهار، فإنا لو فعلنا هذا، لانقطع الناس عن معايشهم، ولصار الكافل العائل معولاً مكفولاً. وهذا أحد الآثار في الفرق بين الليل والنهار، كما سنجمعها في فصل بعد هذا، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
قال: "ولو كان عند الرجل حرائرُ مسلماتٌ... إلى آخره".
8605- غرض الفصل أن الكتابيةَ والمسلمةَ في القَسْم متساويتان؛ فإن حقوقهما متساوية، فإذا ساوى حقُّه على الكتابية حقَّه على المسلمة، فيجب أن يتساويا أيضاًً فيما تستحق كل واحدة على زوجها. وحقق الأئمة هذا فقالوا: استمتاع الرجل بالكتابية يتسع اتساع استمتاعه بالمسلمة، ولا ضِرار على ولده منها؛ فإن ولد المسلم من الكتابية مسلم.
8606- فأما إذا اجتمعت الرقيقة والحرة تحت حر مثلاً بطريق اجتماعهما، فالقَسْم بين الحرة والأَمَة على التفاضل عندنا وعند أبي حنيفة، خلافاً لمالك، فإنه قال: لا فرق في القسم بين الحرة والأَمَة، وهذا غير سديد.
ومعتمدنا: أولاً: ما روى الحسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «للحرة ثُلثا القسم وللأمة ثُلثه». وفراشُ الأَمَة المنكوحة ناقص، وتمكُّنُ الزوجِ من الاستمتاع بها ناقصٌ، ويلحق الولدَ نقصُ الرق، فيليق بهذا ألا يسترسل الزوج في الاستمتاع بها توقياً من الولد، ولذلك لم يثبت نكاح الرقيقة في حق الحر إلا في محل الحاجة.
فإذا ثبت ذلك؛ فإذا كان تحته حرة وأمة، فالحرة على ضعف الأَمَة في القسم، فيقسم للحرة ليلتين وللأمة ليلة.
8607- ثم إذا فرض طريان العتق على الأمة؛ فأصل المذهب لا غموض فيه، ولكن قد تلتبس الصور، فالأَولى الاعتناء بتفصيل الصور، فنبدأ بذكر التفصيل فيه إذا وقعت البدايةُ في نُوَب القَسْم بالحرة، ثم نذكر إذا ما وقعت البداية بالأَمة.
فإن وقعت البداية بالحرة، فعتقت الأمة، فلا يخلو إما أن تعتق في نوبة الحرة، أو في نوبة نفسها، فإن في نوبة الحرة، وكان يقسم للحرة ليلتين وللأمة ليلة، فالجواب المجمل إلى أن يُفصّل-أنها إذا عتقت في نوبة الحرة، صارت بمثابة الحرة الأصلية في القَسْم في مستقبل الزمان، وكأنَّ الرقَّ لم يكن، والتفصيل أنها إذا أعتقت في الليلة الأولى من ليلتي الحرة، فيكملُ الزوج الليلةَ الأولى للحرة، ثم هو بالخيار إن شاء اقتصر في حقها على هذه الليلة، وأقام عند العتيقة ليلة، ثم استدار عليهما ليلة ليلة، وإن أراد أن يقيم عند الحرة ليلتين فإنه يقيم عند العتيقة ليلتين أيضاًً، فإنها التحقت بالحرة الأصلية، كما ذكرنا أولاً.
ولو عتقت في الليلة الثانية من ليلتي الحرة، فإن أراد أن يتم تلك الليلة، ويقيم في بقيتها عند الحرة، فله ذلك، كما تقدم، ثم يقيم عند العتيقة ليلتين أيضاًًً، وإن كانت تلك الليلة قد تشطرت، فأراد أن يخرج في وسط الليل إلى العتيقة ويقيم عندها ليلة ونصفاً، فيجوز ذلك، ولو كان وَضْعُ القَسْم ابتداءً على أنصاف الليالي، لم يجز؛ فإنَّ تبعيض الليالي يُفسد غرضَ السكن وما فيه من مستمتَع.
ولكن إذا طرأ العتق في أثناء الليلة الثانية من ليلتي الحرة، فربما يبغي الزوج أن يجعل القَسْم ليلة ليلة، ولو استتم نوبة الحرة ليلتين، لاحتاج إلى أن يقيم ليلتين عند العتيقة، فإذا لم يرد ذلك، فله أن يبعِّض هذه الليلة، ويرعى التسوية بينهما، وليس كما لو طرأ العتق في أثناء الليلة الأولى في نوبة الحرة؛ فإن نوبةَ القَسْم لا تنقُص عن ليلة في وضعه.
8608- ومما ذكره الأئمة في ذلك أن العتق لو جرى في الليلة الثانية، فأراد الزوج أن يفارق الحرة في بقية تلك الليلة ويبيت عند صاحبٍ له، فإذا فعل ذلك، فأراد أن يبيت عند العتيقة ليلة ويدور إلى الحرة بليلة ويدير النوبتين كذلك؛ قال الصيدلاني: له هذا، وما مضى من الليلة غيرُ محسوبٍ عليه، وهو مختطفٌ من البَيْن؛ فإنَّ ما جرى من التبعيض أفسد تلك الليلة، حتى كأنه لم يُقم في شيء منها عند الحرة، وهذا يؤكده تمهيد عُذر الزوج؛ فإنه كان يتمادى على موجب الشرع في تفضيل الحرة، ثم كما بلغه أتلف.
وهذا الذي ذكره خارج عن القياس في وجوب رعاية النَّصَفة، وتعيّن اعتبار التعديل، وتنزيل العتيقة إذا طرأ عتقها على نوبة الحرة منزلة الحرة الحقيقية، لا تدرؤه التخاييل. فإذا كنا نقول: إذا أكمل للحرة ليلتين يبيت عند العتيقة ليلتين، فإذا بات عند الحرة ليلةً ونصفَ ليلة، ثم أراد أن يبيت عند العتيقة ليلة، فهذا قسْم على التفاضل، وسنذكر مناقشاتٍ للأصحاب في أنصاف الليالي في المسائل التي ستأتي-إن شاء الله عز وجل-، فالوجه: القطع بأنه يُحسب عليه ما مضى من الليل.
فترتب من مجموع ما ذكرناه أن العتق إذا جرى في أثناء الليلة الأولى، فلابد من إكمالها، ثم للزوج الخيار بين أن يدور بعد انقضائها إلى العتيقة، ويبيت عندها ليلة، فيردّ النوبة إلى ليلةٍ ليلة، وبين أن يبيت عندها إلى تتمة الليلتين، ثم يقيم مثلها عند العتيقة.
وإن جرى العتقُ في أثناء الليلة الثانية على الشطر مثلاً؛ فللزوج ثلاثة أحوال: إحداها- أن يتمها، ثم يمكث عند العتيقة ليلتين، والأخرى- أن يدخل على العتيقة في نصف الليل، ويقيم عندها ليلة ونصف، ثم يرتب من النوبة ما يريد، ويجتنب في وضع القَسْم تبعيضَ الليل في المستقبل، كما سنصفه، إن شاء الله عز وجل.
والحالة الثالثة- أن يخرجَ إلى صديق أو مسجد ويبيتَ فيهما، قال الصيدلاني: إن ما مضى من الليل لا يحسب عليه، وقد أرى الأمر بخلاف ذلك، وكل هذا فيه إذا كانت البداية بالحرة وقد عتقت الأمةُ في نوبة الحرة.
8609- فأما إذا انقضت نوبة الحرة بكمالها ليلتين، وانتهت النوبة إلى الأمة، فعتقت في أثناء ليلتها؛ فالعتق الطارىء على نوبتها يثبت لها كمالَ نوبة الحرة، فيبيت عندها ليلتين، وحكم الطارىء إذا كان يقتضي كَمَلاً أن يقتضيَه إذا جرى قبل استيفاء حظ العبودية، ولذلك قلنا: إذا عتق العبد وقد طلق امرأته طلقة واحدة، فالعتق يُملّكه تتمة ثلاث طلقات.
وهذه الصورة التي ذكرناها في القسم أبعد عن اقتضاء مساواة الحرة من الصورة الأولى، وذلك أن نوبتها دخلت وهي على الرق، ثم ألحقناها بالحرة للعتق الطارىء، وفي الصورة الأولى كملت الحرية فيها، وتقدمت على أول نوبتها، فوافاها أول النوبة وهي حرة فيها.
وما ذكرناه لم نقصد به الفرقَ بينهما؛ فإن الحكم في الصورتين واحد، ولكن أردنا التنبيهَ على حقيقة الحال، وترجح إحدى الحالتين من طريق المعنى على الأخرى.
ولو وفَّى الحرة نوبتها ليلتين، ثم وفَّى الأمة نوبتَها ليلة، ثم عاد إلى الحرة، فعتقت الأمة، فما مضى من النوبة في الرق لا التفات إليه، ولا يتوقع فيه مستدرك؛ فإنَّ العتقَ وقع بعد انقضاء تلك النوبة، وإنما يفيد العتقُ إلحاقَ الأمة بالحرة إذا طرأ في نوبة الحرة، أو في نوبة الأمة، فإذا انقضت نوبتان على رقها، ثم طرأ العتق في الثانية للحرة؛ فالنوبتان الماضيتان لا سبيل إلى تعقبهما بالتغيير، فإنا لو نقضناهما، لتعقبنا نُوَباً، وهذا يجرّ تغيير نُوَبَ الرق والحرية في سنين، ولا سبيل إلى التزام ذلك، نعم، إذا طرأ العتق في النوبة الثانية للحرة، فالعتيقة في هذه النوبة كالحرة.
وشبّه الفقهاء النوبةَ الأولى الماضيةَ في الرق أنها لا تعتبر، بما إذا طلق العبد امرأته طلقتين، ثم عتق وتحته زوجةٌ لم يطلقها، فالتي بانت البينونة الكبرى قبل العتق باستيفاء عدد العبيد فيها لا تتغير، وهي محرَّمة حتى تنكح زوجاً غيره، والعتق يفيده في الزوجة التي لم يطلقها، أو طلقها طلقة واحدة- تمامَ العدد.
8610- وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت البداية بالحرة في أول النُّوَب.
فأما إذا وقعت البداية بالأَمة، ووضْع القَسْم على أن يقسم لها ليلة وللحرة ليلتين، فإذا فرضنا عتق الأمة؛ فلا يخلو إما أن تعتِق في نوبة نفسها، وإما أن تعتق في نوبة الحرة، فإن عتقت في نوبة نفسها، التحقت بالحرائر، وللزوج الخيار إن شاء اقتصر على هذه الليلة، ثم يقسم للحرة الأصلية ليلة واحدة أيضاًًً، وإن أراد أن يبيت عند العتيقة ليلتين، فلا معترَضَ عليه ويبيت عند الحرة الأصلية ليلتين.
والجملة في ذلك أن الأمة إذا أعتقت في نوبتها، قدَّرنا كأنَّ الرقَ لم يكن وصورناها كالحرة الأصلية.
فأمَّا إذا مضت نوبة الرقيقة على الرق، وانتهت النوبة إلى الحرة، فاُعتقت الأمة؛ قال الأئمة المحققون: يتعين على الزوج أن يوفيَ الحرةَ ضعفَ ما وفَّى الأمةَ، فإن قال: أوفّي الحرة ليلة، والعتيقة بعدها ليلة، وأردّ النوب إلى أفراد الليالي قلنا: لا، فإن شئت ذلك، فلا معترض عليك في الاستقبال، ولكن بعد توفية حق الحرة.
وإذا استوفت الأمة ليلةً، وانقضت نوبتها، استقر في الذمة للحرة ضعفُ ما كان للأمة، والليلة الواحدة في حق الأمة كالليلتين في حق الحرة. فإذا وفَّى الحرة ليلتين، فلو أراد بعد ذلك أن يرد القسْم إلى ليلة ليلة، فليفعل، ولا معترض.
8611- وتحقيق ذلك أنه لو كانت تحت الزوج حرتان، فكان يقسم ليلتين ليلتين، فلو قسم لإحداهما ليلتين، ثم لما انتهى إلى الثانية قال: بدا لي أن أرد النوبة إلى ليلة ليلة؛ قلنا له: وفّ الثانية ليلتين، فإذا انقضتا، فافعل ما شئت، فالليلة الماضية في حق الرقيقة كالليلتين في حق الحرة. هذا تمام البيان.
وقد رأيت هذه الصور مستقلةً بإفادة المقصود على أحسن نظام.
8612- ومما نلحقه بما تمهد؛ أن العتق إذا جرى في يوم الأمة كما لو جرى في ليلتها، وكل امرأة لها ليلة أو ليال، فلها مع كل ليلة يوم، وذلك اليوم محسوب من نوبتها، فإذا جرى العتق فيه كان كما لو جرى في ليلتها؛ فإن اليوم من النوبة.
8613- والعتق في بعض الأمة لا حكم له ما لم يتم. وهذا كما أن العتق في بعض الأمة لا يثبت لها حق الفسخ إذا كان زوجها رقيقاً.
ثم قال: "وللأمة أن تُحلّله من قَسْمها... إلى آخره".
8614- سنذكر على الاتصال فصلاً في هبة المرأة حقها من القَسْم، والذي يتصل بهذا المقام أن الأمة إذا أسقطت حقَّها من القَسْم؛ فلا معتَرَض عليها.
وليس للسيد بعد إسقاطها أن يطلب حقها، فإنَّ ذلك من حقوقها الآيلة إلى جبلّتها، وما كان كذلك فسبيله التفويض إليها، وكذلك نقول إذا آلى الزوج عن زوجته الأمة، فحق الطلب للأمة، وكذلك إذا عنَّ عنها، فالطلب على التفصيل المعلوم يثبت لها، لا مدخل للسيد فيه.
فصل:
8615- المرأة إذا وهبت نوبتَها، فذلك صحيحٌ منها على ما سنفصل القول فيه.
والأصل في ذلك-مع اتفاق العلماء- حديث سودة إذ وهبت نوبتها لعائشة.
ثم قال الأئمة: إذا وهبت المرأة نوبتَها، فلهبتها ثلاثُ صيغ: إحداها- أن تُعيِّن لهبة نوبتها واحدةً من ضَرّاتها، والأخرى- أن تطلق الهبة ولا تعيِّن واحدةً، والثالثة- أن تقول: وهبت نوبتي لك أيها الزوج، فضعها حيث شئت، وإن أردت، فاقسمها على جميع ضراتي.
8616- فأما الصيغة الأولى- وهي إذا عينت واحدة من ضرائرها، فأقل ما نذكره: أن هذه الهبةَ شرطُها أن يساعِد الزوج عليها، فلو أراد الزوج أن يقيم عند الواهبة كما كان يقيم عندها قبل الهبة، فله ذلك؛ فإنها تملك إسقاط حق نفسها، فأما إسقاط حق مستمتَعٍ للزوج، فمحال.
وإذا لاح هذا، هان أمر الهبة، ورجع إلى أنه لو لم يبت عندها برضاها، جاز.
ولكن إذا عيَّنت واحدة من الضرات، تعيَّن صرف الهبة إليها، فلو قال الزوج: أنت قد أسقطت نوبتك، وأنا أصرفها إلى من أشاء، قلنا له: ليس هذا إليك.
وهذا فيه إشكال يحتاج إلى أن يُجاب عنه. وذلك أن تركها نوبتَها ليس حقاً يُبذل، بل هو حق يترك، وتعيين الموهوبة يشعر بمضاهاة الهبةِ الهباتِ التي تتعلق بما يجوز بذله. والجواب: إنها لم تعينها بهذا، ولكنَّ ترْكها حقَّها هذا مشروط بهذا، فكأنها رضيت بترك حقها على شرط أن يوضع في التي عَيَّنتها، والدليل عليه أنَّا لا نشترط قبولَ الموهوب لها، بل لو أبت، فالزوج يبيت عندها على الرغم منها، فهذا بيان هبتها من واحدة من ضراتها.
ومما يتعلق بذلك أنها إذا وهبت؛ فالهبة لا تلزم، فمهما أرادت أن ترجع رجعت، وهذا متفق عليه؛ لأن هبتها لم تشتمل على عينٍ تحتوي عليها يد، وإنما تركت حقاً يتجدد لها شيئاً فشيئاً.
8617- ثم الذي أطبق عليه معظم المحققين أنها إذا رجعت؛ فالهبة مستمرة إلى أن يبلغ خبرُ رجوعِها الزوجَ، فلو مضت نُوبٌ و الزوج لم يشعر برجوعها، فتلك النوب لا مستدرك لها، ولذلك قالوا: لو أباح رجلٌ لإنسان ثمار بستان أو غيرها مما يقبل الإباحة، فكان المستبيح يتمادى على تعاطي ما أُبيح له، فلو رجع المبيح، ولم يبلغ رجوعُه من أبيح له؛ فالإباحة دائمة قائمة في حقه.
قال شيخي: إذا رجعت المرأة ولم يشعر الزوج، فالمسألة تخرج على القولين المعروفين في أن الموكِّل إذا عَزَلَ الوكيلَ ولم يبلغ العَزلُ الوكيلَ، فهل ينعزل؟ على قولين، وهذا الذي ذكره جار على ظاهر القياس، ولكن اشتراط بلوغ الخبر أغْوص وأفقه؛ فإنَّ حقيقة القَسْم لا تؤول إلى حقٍّ مستحق يوفّى ويستأدى؛ ولهذا قُلنا: لو أعرض الزوج عن جميعهن، فلا طَلِبة عليه، لكنه إذا بات عند واحدة، لزمه أن يبيت عند الباقيات، فالغالب على القَسْم اجتناب ما يتداخلُهن من الغضاضة والأنفة بالتخصيص، فإذا سمحت واحدة بإسقاط حقها، فلا يتحقق من الزوج قصد التخصيص ما لم يبلغه خبرُ رجوعها، وكل ما ذكرناه فيه إذا وهبت وعيّنت.
8618- فأما إذا أطلقت الهبة ولم تخصص بها ضرة، ولم تُضفها إلى مشيئة الزوج، فإذا رضي الزوج بهذا، كان حكم هبتها أن تخرج من حساب النُّوب، وتنزل-إذا وهبت- منزلتَها لو بانت.
فإذا كُنَّ أربعاً فوهبت واحدة نوبتها على الصيغة التي ذكرناها، وكان الزوج يقسم بينهن ليلة ليلة، أو كما يريد، فترجع فائدة هبتها إلى سقوط مزاحمتها وسرعة العود إلى كل واحدة.
8619- فأما الصيغة الثالثة في الهبة وهي: إذا قالت للزوج: وهبت نوبتي منك، فضعها حيث تشاء، وخَصِّصْ بها من تشاء، فهذا مما اختلف فيه جواب الأئمة. فالذي قطع به شيخي واشتمل عليه تعليقه: أنَّ الهبة تقع على هذا النسق، فالزوج بالخيار، فإن شاء فض نوبتها عليهن، كما لو أطلقت الهبة، وإن شاء خصص واحدة منهن. ووجه ذلك أن صاحبة الحق وهبت ذلك.
وقطع الصيدلاني جوابه نقلاً عن القفال بأنَّ الزوج لا يخصص واحدة منهن، والهبة المنوطة بمشيئته بمثابة الهبة المطلقةِ أو المضافةِ إليهن.
وهذا الذي ذكره فقيهٌ حَسن؛ وذلك لأنها إذا أسقطت حقها، فالزوج لا يستفيد منها حقاً، وإنما هي تركت ما لها، فصار كأنها لم تكن، والحق الحقيقي للزوج، وليس لآحاد النسوة، إلاَّ ما أشرنا إليه من حق التسوية. فإذا أخرجت نفسها من البَيْن، صار كأنها لم تكن، واستعمل الصيدلاني في ذلك عبارة حسنةً واقعة، وذلك أنه قال: ليس له أن يقول: أجعل هذه الليلة لواحدة؛ فأبيت عندها ليلتين؛ إذ ليس للزوج أن يعد نفسه كإحداهن، فيثبت له ليلة من الهبة، وحقيقة هذا أنَّ الحق له، والتخصيص للنسوة.
ووجه ما ذكره شيخي أنها لو قيَّدت هبتها بتعيين ضرتها، تقيدت على تأويل أن هبتها مقيدة بصيغة، فتثبت على مقتضاها، كذلك إذا وهبت على شرط تخير الزوج، فلتتقيَّد هبتُها بمقتضى لفظها.
وللصيدلاني أن يقول: إذا ارتفع الحجر عن الزوج، فوَضْعُه النوبةَ فيمن يختارها ميل، وهذا هو المحذور في شَرعْ أصل القسم، وإذا خصصت الواهبة واحدةً، فلا ميل من الزوج.
8620- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن الواهبة لو خصصت واحدة من ضراتها واختصت، وكنا رتبنا نُوَبَهن بالقرعة، فإن كانت نوبة الواهبة إلى جنب نوبة الموهوبة، فالأمر قريب، فيجمع الزوج للموهوبةِ نوبتَها ونوبةَ الواهبة.
وإن كانت نوبة الواهبة منفصلة عن نوبة الموهوبة بليلة أو ليلتين، فإذا وهبت، فقد ذكر العراقيون وجهين:
أحدهما: أنه يأتي في حق الموهوبة بالليلتين وِلاءً؛ فإنها إذا كانت تستحق ليلتين، فلا معنى لتفريقهما عليه. والوجه الثاني- أنه يأتي بالليلتين على ما يقتضيه ترتيب نوبة الواهبة والموهوبة، حتى إن كانت نوبة الموهوبة في أول النوب، فيوفيها نوبتها، ثم يوفي التي لم تهب، حتى ينتهي إلى نوبة التي وُهبت، فيعود ويبيت عند الموهوبة تلك الليلة.
86201- ومما ذكره الشافعي في آخر هذا الفصل: أن الاعتياض عن حق القسم غير جائز، والأمر على ما ذكره، ولا يجوز الاعتياض عن أمثال هذه الحقوق؛ فإنها في التحقيق تخصيصاتٌ تتعلق بالأَنَفةِ وطلبِ التسوية، ولا مسوِّغ للاعتياض عما هذا سبيله، وإذا منعنا الشفيع عن الاعتياض عن حقه من الشفعة، فلأن نمنع هاهنا من الاعتياض عن حق القَسْم أولى.
فصل:
قال: "ولا يجامع المرأة في غير نوبتها... إلى آخره".
8622- الفصل يشتمل على مقصودين:
أحدهما: يتعلق بتحصيل قولنا: عماد القَسْم الليل.
والثاني: يتعلق بذكر ما لو جامع في نوبة إحداهن الأخرى.
فأما المقصود الأول فقد اشتهر من قول علمائنا أن عماد القسم الليل، وهو السكن، وعليه التعويل، والنهار التابع لليل يتعلق به حقُّ القَسْم أيضاًًً، ولكن لا يتأكد الحقُّ في النهار تأكده في الليل، ونحن نستعين بالله عز وجل ونبين حقيقة ذلك.
8622/م- فأما الليل فليس للزوج أن يخرج من دار واحدة ويدخل على أخرى، فلو مرضت امرأةٌ ولم تثقل، فأراد أن يدخل عليها عائداً، فكيف السبيل، وما الوجه؟ أولاً: ليس له الدخول على واحدة منهن من غير سبب، فلو فعل، باء بالإثم، وكان ظالماً، ثم إن كان الزمان الذي خرج فيه بحيث يُحَسّ ويبين له قدرٌ من الليل، فعليه أن يقضيه لصاحبة النوبة.
وفي كلام من نقل عن القاضي أنه لو بلغ ثلثاً من الليل، قضى، وهذا ليس بشيء. وإذا كنا نوبّخ خصومنا بالتحكم بالتقدير، فلا ينبغي أن نبوء بمثل ما ننكره، فالأصل عندي أن يكون مقدار المفارقة بحيث لو نسب إلى الليلة، لأمكن أن يقال: جُزءٌ منها. وإن كان في قفته بحيث لا يُدرك جزئيتهُ من الليل، فليس في هذا المقدار إلاَّ التأثيم.
ويحتمل على بُعد أن يقال: يقضي لصاحبة الليلة مثلَ تلك الخرجة، وإن قل زمانُها، حتى إذا انتهت النوبة إلى التي كان دخل عليها، فيخرج من عندها، ويدخل على صاحبة النوبة الأولى.
هذا بيان القول فيه إذا دخل في نوبة واحدة على ضرتها من غير عذر.
8623- فإن مرضت له امرأةٌ وأشرفت على خوف الهلاك، فيجوز للزوج الانتقال إليها بالكلية للتمريض، حتى إذا بَرَأَت، قضت من نوبتها بعد الاستبلال للواتي لم يدخل عليهن، كما سيأتي ذلك في فصل مفرد، إن شاء الله عز وجل.
8624- فأما إذا مرضت واحدة ولم يتحقق انتهاؤها إلى الخوف، فالذي ذكره القاضي وطوائف من المحققين أن له أن يخرج إليها عائداً. قال صاحب التقريب: المذهب أنه لا يخرج إليها عائداً إذا لم تَنته إلى الخوف والثقل.
وذكر بعض الأصحاب قولاً أن له أن يخرج إليها عائداً، ثم قال: وهذا غلط والمذهب: أنه لا يجوز له الخروج. هكذا ذكر صاحب التقريب، والذي رآه صاحب التقريب غلطاً أفتى به طوائفُ من أئمتنا.
ثم إن خرج عائداً ومكث زماناً يُحسّ، وجب القضاء فيه، وإن كان لا يحسّ، فعلى الترتيب المقدم.
والذي عندي أن المرض الذي أطلقوه لابد فيه من ضبط أيضاًًً، فلا يجوز الخروج بكل ما يسمى مرضاً، ولعل الضبط في ذلك أن يكون المرض بحيث يجوز أن يقدّر مخوفاً، ودخوله عليها ليتبين، حتى يكون مبيته على فراغ.
وكل ما ذكرناه في الليل، وفيه بقية، ينعطف عليها كلامنا في النهار.
8625- فنقول: لا يتحتم على الرجل أن يلازم زوجته في نوبتها نهاراً؛ فإنَّا لو ألزمناه ذلك، لانقطع عن مكاسبه، فله أن ينتشر في بياض نهاره كما أشعر نصُّ القرآن بذلك، فقال عز من قائل: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 73]. فرجع قوله {لِتَسْكُنُوا فِيهِ} إلى الليل، وقوله: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} إلى النهار.
8626- ثم يتعلق بالنهار نوعان من الكلام:
أحدهما: أن الزوج لو كان يخرج في نهارِ واحدةٍ وينتشر، وكان يلازم الأخرى في نهارها، فكيف الكلام فيه؟
فإن كان هذا عن اتفاق شغل، فلا مضايقة، وإن كان عن قصد، فهذا محتمل: ما يدل عليه ظاهر كلام الأئمة أن ذلك غير ممتنع، وفيه احتمال ظاهر مأخوذ من كلامهم أيضاًًً، ووجه الاحتمال أن مدار القَسْم على ترك التخصيص واجتناب إظهار الميل، وهذا إذا تكرر في النهار ميلٌ ظاهر، إذا لم يكن شغلٌ محمول على الوفاق، ووجه الجواز حسم الباب عن الرجال، إذا أرادوا الانتشار بها.
وهذا فصل.
والثاني: دخوله على التي ليست النوبة لها. أجمع الأصحاب على أنه لا يجوز له أن يدخل في نوبة واحدة على الأخرى ويجامعَها، هذا لا سبيل إليه؛ فإنه منتهى المقصود، وفيه الميل الأظهر وإبطالُ الاختصاص بحق النهار بالكلية.
وهل له أن يدخل في نهار واحدة على الأخرى من غير جماع، أم هل يُرعى في ذلك عذرٌ؟ اضطربت طرق الأئمة، ففي كلام العراقيين ما يدل على جواز الدخول إذا لم يكن وقاع، وهذا مضطرب لا ضبط فيه، ويلزم منه أن يجوز له الكَوْن عند التي لا نوبة لها في معظم النهار، أو في جميع النهار، وهذا بعيد.
وقال قائلون: لا يدخل عليها إلا لحاجةٍ ومهمٍّ، وبان من كلام هؤلاء أن الدخول ليلاً للمرض لا غير، والدخول نهاراً لا يجوز من غير حاجة، ويجوز عند ظهور حاجة، وإن لم يكن مرض، ولفظ الشافعي في السواد يدل عليه، فأنه قال: "ولا بأس أن يدخل عليها بالنهار في حاجةٍ، ويعودَها في مرضها في ليلة غيرها"، وفي كلام صاحب التقريب ما يدل على تنزيل النهار منزلة الليل، والطرق محتملة وأبعدها رفع الحجر.
والذي أراه مقطوعاً به: أنه كما يحرم الجماع في نهار الليل؛ يحرم الدخول فيه على وجهٍ يغلبُ فيه جريان الجماع؛ فإن الذي يداخل صاحبةَ النوبة من ظهور جريان الجماع يداني جريانَه، والكلام في مثل هذا ينتشر، وأقصى الإمكان في الضبط ما ذكرناه.
8627- وقد بقي من الفصل المقصودُ الثاني، وهو الكلام فيه إذا جامع واحدة في ليلة غيرها، وقد ذكر العراقيون في ذلك ثلاثة أوجه: أحدها: أنه إذا جامع في ليلةٍ غيرَ صاحبة النوبة، فقد أفسد الليلةَ، فعليه أن يقضيَ لها ليلة؛ فإنَّا وإن كنَّا لا نوجب التسويةَ بين النساء في الجماع، ونقول: هو موضع تلذذ لا إجبارَ عليه، فمن الأصول بناء الأمر على إمكان الوقاع، وتزجية كل واحدة نوبتها بذلك، فإذا جرى جماعٌ-والغالب أن الليلة الواحدة لا تحتمل أكثرَ من وطأة واحدة- ففي هذا إفسادُ الليلة عليها؛ فعلى هذا، وإن عاد إليها وبات عندها، فلا حكم لهذه البيتوتة.
والوجه الثاني- أنه عصى بما فعل، ولكن لا يلزمه قضاءُ الليلة إذا لم يتفق مكثٌ في زمان محسوس، كما تفصّل من قبل، وهذا متّجه إذا ثبت أنه غير مطالَبٌ بالوطء.
والوجه الثالث: أنه إذا وطىء في ليلتها غيرَها من النساء، فيلزمه أن يصيب المظلومةَ في ليلة تلك التي وطئها في هذه النوبة، وهذا طريق استدراك هذا النوع من الظلم، وهذا القائل يُلزمه الوطءَ، وهو بعيد عن قاعدة المذهب، وكل ما ذكرناه فيه إذا جرى الوطء ليلاً.
8628- فأما إذا وطىء واحدةً في نهار الأخرى، فقد ذكرنا أنه كان ممنوعاً عن ذلك، وإقدامه عليه مُحرم، فإن قلنا: الوطء في الليل لا أثر له، فلا أثر له في النهار أيضاًًً. وإن قلنا: الوطء في الليل يفسده، أو يجب تداركه بالوطء في نوبة الموطوءة، فماذا نقول في الوطء نهارً؟ هذا فيه احتمال ظاهر: يجوز أن يكون النهار كالليل، ويجوز أن نقطع في النهار بالاقتصار على التعصية.
فصل:
قال: "وإن أراد أن يقسم ليلتين ليلتين، أو ثلاثاً ثلاثاً... إلى آخره".
8629- أقل نوب القسم ليلة، فلو أراد أن يقسمَ الليلةَ في وضع القسم، لم يكن له ذلك؛ فإنَّ الاستئناس المطلوب ينبتر ويفسد نظامه بتبعيض الليلة، ولو أراد أن يقسم ليلة ليلة، فله ذلك، وكذلك لو أراد أن يقسم ليلتين ليلتين، أو ثلاثاً ثلاثاً، فلا معترض عليه في اختيار مقدارٍ من هذه المقادير.
وإن أراد أن يزيد النوبة على الثلاث؛ ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنه لا يجوز؛ إذ لا موقف بعد المجاوزة، والثلاث على حالٍ مدةٌ معتبرة في الشريعة في أصولٍ، ثم إذا لم نجد موقفاً وراء الثلاث، فربما نجعل النوبة ستة أو أكثر منها، وهذا يؤدي إلى مهاجَرةٍ في حق اللواتي تتأخر نُوبهن، ثم يترتب عليها انتساج وحشة بين الزوج وبين المتخلفات، وإلى تأكد ألفة تنتهي إلى المِقَة، فيحصل من السرف في الازدياد مقتٌ ومِقَة، وقطعهما جميعاً عسر.
فإن قلنا: لا تجوز الزيادة على الثلاث، فلا كلام، وإن جوزنا الزيادة، ففي المسألة وجهان، ذكرهما صاحب التقريب:
أحدهما: أنا لا نقف في موقف، والثاني: أنا لا نتجاوز السبع؛ فإنه منتهى مدة روعيت في هذا الفن؛ لأن للبكر سبع ليال في حق العقد، فاتخذناه معتبراً.
8630- وعندنا أنَّ رفعَ الضبط وتفويضَ الأمر في أقدار النُّوب إلى الزوج لا يجوز أن يكون معدوداً من المذهب إلاَّ على وجهٍ، وهو أن تُرتّب النوب بالقرعة على ما سنصفه، فيجوز أن نتخيل-على بُعدٍ- أن المدة وإن طالت إذا كان المحكَّمُ القرعةَ، فمن تخرج لها تقع البدايةُ بها، فلا ينتسب الزوج إلى التهمة في الميل والإيثار.
وهذا أيضاًًً ليس بشيء؛ فإن المقدار الذي يتحتم على الزوج لا يضرُّ به الوفاء به، فلو بدا له أن يقلل أو يكثر بعد الوفاء بالتسوية، فلا معترض عليه، والتفريع على البعيد أبعدُ منه، فليخرج هذا الوجه من المذهب.
ولفظ الشافعي في المختصر: وأكره مجاوزة الثلاث، وهذا هو الذي حمل بعض الأصحاب على جواز المجاوزة، والشافعي كثيراً ما يطلق الكراهية والمراد به التحريم.
ولم يتعرض أحد لذكر مدة الإيلاء، وإن كان زمانها معتبراً في الإضرار، ولو سبق إليه سابق، فشرْطُه ألا تزيد النوب على أربعة أشهر زيادة لا تنتهي النوبة إلى الواحدة بعد أكثر من أربعة أشهر.
وهذه احتمالات مختلطة.
فإن ثبت أن تعيين أقدار الزمان إلى الزوج على النسق الذي ذكرناه، فإذا كان يفتتح توظيف النُّوَبِ؛ فالمذهب أنه يحكِّم القرعةَ أم الابتداءُ بواحدة باختياره؟
من أصحابنا من قال: هذا إليه أيضاًًً، ثم تنتظم النوب.
8631- ومما يدور في الخلد أنَّا إذا منعنا الزوج من وطء زوجةٍ في نوبة زوجة، فهذا الوطء حرام، أم ماذا نقول فيه؟ فإذا حرّمناه وقد صادف محل الحِلّ، كان بعيداً، وإن أحللناه، فهو ممنوع من الجماع بعينه، وليس كالصلاة في الدار المغصوبة، ومما يزداد به الغموض أنَّ الوطء ليس مُستحَقاً عليه لواحدة منهن، فإنه لو لم يطأ واحدة منهن، أو وطىء بعضَهن وانكف عن وطء بعضهن، فلا معترض عليه.
والذي أراه أن التحريم المضافَ إلى الوطء ينقسم: فمنه تحريم يرجع إلى عين الوطء على التحقيق من غير تعلُّقٍ بحق الغير، هذا هو الذي نُطلق فيه التحريم من غير محاشاة كالوطء في غير محل الحل، ثم ينقسم هذا أقساماً لسنا لها، وفي وطء الحائض ما قدمته في بابه.
ومن الأقسام تحريمٌ يتعلق برعاية حق الغير إذا كان مُفضياً إلى إبطال حق له مستَحَق، وهذا كوطء الراهن المرهونة، حرمناه لإفضائه إلى هلاك المرهونة، أو إلى بطلان المالية الصالحة لوثيقة الرهن.
والقسم الثالث: ما نحن فيه، وهو تحريم الوطء لأجل إفضائه إلى إدخال مَغِيظَةٍ على الغير، وإن لم يكن ثَمّ حق مستَحَقّ.
فإذن لو قال قائل: الوطء من جهة مصادفته محلَّ الحل ليس بمحرم، ومن جهة تضمنه جرَّ مغيظة وضراراً من هذا الفن، فهو محرم.
ثم اللائق بالتحقيق النظر إلى المحل والحل، والقطعُ بالإباحة وصرف التحريم إلى إيقاع المغيظة، لا إلى ما وقعت المغيظة به، والقول في هذا يغوص إلى مغاصات الأصول.
8632- ثم نختم الفصل بذكر إجماع الأصحاب على أنه لا يجب على الزوج التسوية بينهن في الجماع، فإنَّ ذلك موضع تلذذ، لا يليق بمحاسن الشرع الإجبار عليه والتسوية.